قنابل تستهدف الحق في اللعب
نشرت
20 يناير 2025
مؤلف
حلا الحميدان

في الأول من أبريل (نيسان) عام 1997، كانت مريم على البستاني في الثانية عشرة من عمرها، وكانت تمتلك طفولتها وحياة بأكملها أمامها وعشرة أصابع بكلتا يديها. في ذلك اليوم استطاعت من خلالهما قطف الزعتر الأخضر الطازج في بلدتها دير عامص، قبل أن تعثر على لعبة بشكل سيارة جيب وسط الزعتر. لم تكن لعبة لكنها اكتشفت ذلك بعد عدة ساعات عندما سحبت السلك المتدلي من اللعبة لتنفجر بين يديها.
وفي الشهر الماضي انتشر على أنستغرام مقطعاً مصوراً يعود لعام 1982، يظهر فيه محمود اللبدي المتحدث باسم منظمة التحرير الفلسطينية حينها وهو يحمل بالوناً على شكل رأس ميكي ماوس، ويكرر إنه مسمم. في الأعوام تلك صرح الجيش اللبناني مراراً عن عثورهم على أجسام مشبوهة، وأغلبها كانت ألعاب للأطفال لكنها مفخخة.
تعني لبنان للبعض فيروز ووديع الصافي، وفي قلب العشاق تمشية مسائية على الكورنيش، وبالتأكيد يتذكر كُثر لياليها الصاخبة وسهرات بيروت، لكن بالتأكيد مهما تنوعت صور لبنان في الذاكرة تترك رائحة طبق من الخضار الطازجة المقطوفة تواً من أراضيها حيث ينتشر الزعتر البرّي، وتُعلّق صوراً في الخيال لأشجار على مدّ النظر.
بساتين برتقال، وتفرعات أغصان أشجار الزيتون وشكل الأوراق العريضة لأشجار الموز، وبين كل تلك الصورالتي تخطف العقل، تركت إسرائيل قنابلها العنقودية عام 2006، حيث تدلت من أغصان الأشجار أو تركت مرمية بين الحقول.
تعتبر القنابل العنقودية أسلحة غير تقليدية محرمة دولياً، تتكون من عبوة ينطلق منها عدد كبير من القنابل الصغيرة في الهواء، تزن كل واحدة منها قرابة 20 كيلوغراماً، وتستخدم للهجوم على أهداف مختلفة مثل العربات المدرعة أو الأشخاص، أو إضرام الحرائق، وتنفجر حال اصطدامها بالأرض، أو تتحول إلى ألغام أرضية.
جاء في مقال نشرته النيويورك تايمز عام 2006، أنه بعد شهر منذ انتهاء الحرب أصيب أو قُتل ما يقرب من ثلاثة أشخاص كل يوم بسبب القنابل العنقودية التي أسقطتها إسرائيل في الأيام الأخيرة من الحرب.
وقدّر مسؤولو الأمم المتحدة أن جنوب لبنان مليء بمليون قنبلة صغيرة غير منفجرة، وهو عدد يفوق بكثير عدد سكان المنطقة البالغ عددهم حينها 650 ألف نسمة. وحتى 28 سبتمبر، أصابت القنابل العنقودية 109 أشخاص بجروح خطيرة، وقتلت 18 آخرين.
تركز توزع القنابل في المناطق الواقعة جنوب مدينة صور، وحول مدينتي تبنين والنبطية وصرّح حينها مدير برنامج لبنان في مركز الأمم المتحدة لتنسيق الأعمال المتعلقة بالألغام (MACC)، كريس كلارك، أن وضع القنابل العنقودية في جنوب لبنان "هو الأسوأ الذي رأيته على الإطلاق، إنه أمر غير مسبوق ومثير للقلق". وسجلت المنظمة حوالي 840 ضربة فردية بالقنابل العنقودية، تغطي مساحة تفوق 33 كيلومتراً مربعاً.
عودة في الزمن
يوم 6 سبتمبر(أيلول) عام 1997، كان حسين موسى خير الدين ابن التسع سنوات، في طريق عودته إلى منزله من منزل جده، وجد على الأرض لعبة على شكل مروحية، كان لونها أصفر وأسود، وطلبت منه والدتها رميها أكثر من مرة لكنه أخذها، وضعها داخل كيس الخبز، ثم خبأها عن أعين أخوته وحين قرر اللعب بها انفجرت.
رغم وحشية ما حصل عام 2006، حصل قبلها ما هو أكثر فداحة، لتبدو اليوم الاستجابة العالمية لسلوك إسرائيل هو ما مهد لها الطريق لاستباحة حياة الأطفال في المنطقة حتى يومنا هذا. عام 1998، وتحديداً 18 نوفمبر، (تشرين الثاني) أرسلت البعثة الدائمة للبنان مذكرة شفوية إلى الأمين العام للأمم المتحدة، فصّلت اعتداءات إسرائيل على المدنيين، وجاء من ضمنها محاولات قتل الأطفال من خلال رمي الطائرات الحربية الإسرائيلية آلاف الألعاب المفخخة في محيط القرى والمدن اللبنانية.
تختلف أنواع القنابل العنقودية، وتتماثل باحتوائها على قنابل صغيرة يتراوح عددها بين 200 إلى 600 قنبلة صغيرة، ورغم اختلاف أشكالها تُعتبر جذابة للأطفال حتى لو كانت مجرد كرة معدنية، إنها بالنهاية كرة بالنسبة لفضول طفل. ويمكن أن تحمل القنابل الصغيرة حمولات مضادة للأفراد أو مضادة للدبابات أو حارقة أو كيميائية، كما يمكن تجهيزها بمؤقتات أو أجهزة استشعار تحولها إلى ألغام أرضية قد تبقى لعقود من الزمن وهذا بالضبط ما حصل في لبنان.
بحسب شهادات نشرتها منظمة هيومن رايتس ووتش عثر الأطفال على متفجرات مزروعة في ألعاب على شكل سيارة جيب، أو طائرة هيلوكوبتر.
وخلال عام، أعلن حزب الله أنه عثر على ستة أجهزة كانت جميعها ذات ألوان زاهية: بيضة ذهبية، ومخاريط صفراء نيون، وكلب سنوبي ودمية ناطقة.
كل هذه الألعاب تكون مزودة بأسلاك وأشرطة، ما إن يسحبها الطفل حتى تنفجر اللعبة لتبتر يد أو ساق أو تقتل من حولها.
بعد انسحاب القوات الإسرائيلية اعترفت إسرائيل في البداية بزرع حوالي 70 ألف لغم و288 لغماً مفخخاً، وسلمت الخرائط الخاصة بهذا العدد، وعام 2002 سلمت إسرائيل خرائط إضافية تظهر إجمالي 405.000 لغم.
الحاضر، اليوم
مئات آلاف الألغام في القرن الماضي، لحقها مليون ذخيرة غير متفجرة منتشرة في الوديان والتلال والبساتين جنوب لبنان كلّها مرّت دون أي محاسبة تذكر لتمهد الطريق اليوم لإسرائيل ليستمر عدوانها على لبنان للشهر الثاني. حتى الآن ارتفع عدد الشهداء منذ بداية العدوان الإسرائيلي 2822 شهيداً، وتجاوز عدد الجرحى 12937 بحسب وزارة الصحة اللبنانية.
أما عمليات التهجير القسرية تخضع لرسائل تحذيرية يرسلها العدو لإخلاء المباني أو مناطق بأكملها. ووفقاً للمفوضية السامية لحقوق الإنسان، فإن ربع الأراضي اللبنانية تخضع الآن لأوامر التهجير العسكرية الإسرائيلية. ويوجد حالياً 809,043 فرداً نازحين داخلياً 35% منهم أطفال.
تقول اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة لكل طفل الحق في الراحة والاسترخاء في اللعب، لكن منذ أكثر من أربعة عقود تفرض إسرائيل على أطفال المنطقة مصيراً مختلفاً يبدأ بالخوف والترهيب، يزرع صدمات لا تشفى بالتقادم، يقتلعهم من بيوت طفولتهم، يحرمهم من عائلاتهم أو مدارسهم أو بيئتهم.
وحين ينزلون إلى البساتين يمارسون حقهم في اللعب والتجول والاكتشاف يكون الفضول مُهدداً لحياتهم بلعبة مضيئة لمّاعة.
12 فبراير (شباط) عام 1999، وجد أحمد مقلد لعبة على شكل كانتين (كافيتريا)، كانت مطلية بزجاج ملون جميل قالت والدته جمانة في شهادتها وهي عرفت ما حصل بالضبط من أطفال آخرين كانوا يلعبون مع أحمد. سحب أحمد السلك المربوط بالكانتين وطار بالهواء.
يومها كان عمر أحمد خمس سنوات، وبقي كذلك، طائراً صغيراً خطف الاحتلال حياته.
رسوم: علاء فليفل